كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحًا منه، فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد. وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثًا. الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. فنزل: {الذين استجابوا لله والرسول..} الآية.
وأخرج ابن جرير عن إبراهيم قال: كان عبد الله من {الذين استجابوا لله والرسول}.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله: {من بعد ما أصابهم القرح} قال: الجراحات.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه كان يقرأ {من بعد ما أصابهم القرح}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: افصلوا بينهما قوله: {للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس}.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: لما ندم أبو سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: ارجعوا فاستأصلوهم. فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا، فلقوا أعرابيًا فجعلوا له جعلًا، فقالوا له: إن لقيت محمدًا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم. فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا الأعرابي في الطريق فأخبرهم الخبر فقالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل} ثم رجعوا من حمراء الأسد. فأنزل الله فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم...} الآية.
وأخرج ابن سعد عن ابن أبزى {الذين قال لهم الناس} قال: أبو سفيان. قال لقوم: إن لقيتم أصحاب محمد فأخبروهم أنا قد جمعنا لهم جموعًا. فأخبروهم فقالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل}.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيرًا واردة المدينة ببضاعة لهم، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم جبال فقال: إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدًا ومن معه، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعًا كثيرة، فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعًا كثيرة، وأنه مقبل إلى المدينة، وإن شئت أن ترجع فافعل. فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينًا {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} فأنزل الله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا...} الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم حتى إذا كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم فيقولون لهم: هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس فقالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل} فأنزل الله: {الذين قال لهم الناس...} الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {الذين قال لهم الناس...} الآية. قال: إن أبا سفيان كان أرسل يوم أحد أو يوم الأحزاب إلى قريش، وغطفان، وهوازن، يستجيشهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فقيل: لو ذهب نفر من المسلمين فأتوكم بالخبر، فذهب نفر حتى إذا كانوا بالمكان الذي ذكر لهم أنهم فيه لم يروا أحدًا فرجعوا.
وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى يوم أحد فقيل له: يا رسول الله {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} فقال: {حسبنا الله ونعم الوكيل} فأنزل الله: {الذين قال لهم الناس...} الآية.
وأخرج ابن مردويه عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه عليًا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم {قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} فنزلت فيهم هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} قال: هذا أبو سفيان قال لمحمد يوم أحد: موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: عسى. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرًا فوافوا السوق فابتاعوا، فذلك قوله: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} وهي غزوة بدر الصغرى.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كانت بدر متجرًا في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان أن يلقاه بها، فلقيهم رجل فقال له: إن بها جمعًا عظيمًا من المشركين. فأما الجبان فرجع. وأما الشجاع فأخذ أهبة التجارة وأهبة القتال. {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ثم خرجوا حتى جاؤوها فتسوّقوا بها ولم يلقوا أحدًا فنزلت {الذين قال لهم الناس} إلى قوله: {بنعمة من الله وفضل}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {فزادهم إيمانًا} قال: الإيمان يزيد وينقص.
وأخرج البخاري والنسائي وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: {حسبنا الله ونعم الوكيل} قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
وأخرج البخاري وابن المنذر والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: قال آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار {حسبنا الله ونعم الوكيل} وقال نبيكم مثلها {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمرو قال: هي الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقي في النار {حسبنا الله ونعم الوكيل} وهي الكلمة التي قالها نبيكم وأصحابه إذ قيل لهم {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم}.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل}».
وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتدّ غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء وقال: «حسبي الله ونعم الوكيل».
وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف».
وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال عشر كلمات عند كل صلاة غداة وجد الله عندهن مكفيًا مجزيًا: خمس للدنيا، وخمس للآخرة: حسبي الله لديني، حسبي الله لما أهمني، حسبي الله لمن بغى عليّ، حسبي الله لمن حسدني، حسبي الله لمن كادني بسوء، حسبي الله عند الموت، حسبي الله عند المسألة في القبر، حسبي الله عند الميزان، حسبي الله عند الصراط، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب».
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل} قال: {النعمة} أنهم سلموا و{الفضل} إن عيرًا مرَّت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح مالًا فقسمه بين أصحابه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى غزوة بدر الصغرى ببدر دراهم ابتاعوا بها من موسم بدر، فأصابوا تجارة فذلك قول الله: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} قال: أما النعمة فهي العافية، وأما الفضل فالتجارة، والسوء القتل.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {لم يمسسهم سوء} قال: لم يؤذهم أحد {واتبعوا رضوان الله} قال: أطاعوا الله ورسوله.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف من طريق عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ {إنما ذلكم الشيطان يخوّفكم أولياءه}.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس {إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه} يقول: الشيطان يخوّف المؤمنين بأوليائه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه} قال: يخوّف المؤمنين بالكفار.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك {يخوّف أولياءه} قال: يعظم أولياءه في أعينكم.
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال: تفسيرها يخوّفكم بأوليائه.
وأخرج ابن المنذر عن إبراهيم في الآية قال: يخوّف الناس أولياءه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: إنما كان ذلك تخويف الشيطان، ولا يخاف الشيطان إلا ولي الشيطان. اهـ.
أقوال العلماء والزهاد في الخوف:
قال ابن عبد ربه:
سُئل ابن عباس عن الخائفين للّه، فقال: هم الذي صَدَقُوا الله في مَخَافَة وعيده، فقلوبهم بالخَوْف قَرِيحة، وأعينُهم على أنفسهم باكِية، ودُموعهم على خدودهم جارية، يقولون: كيف نَفْرح والموتُ من ورائنا، والقُبورُ من أمامنا، والقيامة مَوْعدنا، وعلى جهنَّم طريقُنا، وبين يدي ربنا مَوْقفنا.
وقال عليّ كَرم الله وجهَه: ألا إنّ للّه عبادًا مُخْلصين، كمَن رأى أهلَ الجنَّة في الجنَّة فاكهين، وأَهْل النار في النار مُعذَّبين، شرُورُهم مأمونة، وقُلوبهم مَحزونة، وأنفسُهم عفيفة، وحوائجهم خَفيفة، صَبَرُوا أيًاماَ قليلة، لِعُقْبى راحة طويلة؛ أمّا بالليل فَصَفُوا أقدامَهم في صَلاتهم، تَجْري دُموعُهم على خُدُودهم، يَجْأَرون إلى ربِّهم: ربَّنا ربنا، يَطلبون فَكاك قُلوبهم: وأمَّا بالنهار فُعلماء حُلماء، بَررة أَتْقياء، كأنهم القِداح- القِداح: السهام، يريد في ضُمرتها- يَنْظر إليهم الناظرُ فيقول: مَرْضىَ، وما بالقوم من مَرض، ويقول: خُولطوا، ولقد خالط القومَ أمرٌ عظيم.
وقال منصور بن عَمَّار في مجلس الزهد: إن للهّ عبادًا جعلوا ما كُتب عليهم من الموتِ مثالًا بين أعينهم، وقطعوا الأَسباب المُتَّصلة بقلُوبهم من عَلائق الدنيا، فهم أنضاءُ عبادته، حُلفاء طاعته قد نَضَحوا خُدودهم بوابل دُموعهم، وافترشوا جِبِاهَهم في مَحاريبهم، يناجون ذا الكِبْرياء والعَظمة في فكاك رِقابهم.
ودَخل قوم على عُمر بن عبد العزيز يَعودونه في مَرضه، وفيهم شابٌّ ذابل ناحِل. فقال له عُمر: يا فتى، ما بَلغ بك ما أَرى؟ قال: يا أميرَ المؤمنين، أمراضُ وأسقام. قال له عمر: لَتَصْدُقَنِّي. قال: بلى يا أمير المؤمنين، ذُقت يومًا حلاوةَ الدنيا فوجدتُها مُرَّةً عواقُبها، فاستوى عندي حَجَرُها وذَهَبُها، وكأَنِّي أنظر إلى عَرْش ربِّنا بارزًا، وإلى الناس يُسَاقون إلى الجنة والنار، فأظمأْتُ نَهاري، وأسْهَرْتُ ليلي، وقليلٌ كلُّ ما أنا فيه في جنْب ثواب الله وخوف عقابه.
وقال ابن أبي اَلحَواريّ: قلت لسُفيان: بلغني في قول الله تبارك وتعالى: {إلاَ مَنْ أتىَ الله بِقَلْب سَلِيم} الذي يَلْقى ربَّه وليس فيه أَحَدٌ غَيْره. فبكى وقال: ما سمعتُ منذ ثلاثين سنةً أحسَنَ من هذا التفسير. وقال الحسنُ: إنّ خوفك حتى تلقى الأمنَ خيرٌ من أمنك حتى تَلقى الخوف. وقال: ينبغي أن يكون الخوفُ أغلبَ على الرجاء، فإنّ الرجاء إذا غَلَب الخوفَ فَسَد القلبُ. وقال: عجباَ لمَن خافَ العِقَابَ ولم يَكُف، ولمَن رَجا الثوابَ ولم يَعْمل.
وقال علي بن أبي طالب كرَّمَ الله وجَهه لرجل: ما تَصْنع؟ فقال: أرجو وأخاف، قال: مَن رجا شيئًا طلبه، ومَن خاف شيئًا هرب منه. وقال الفضَيْل بن عياض: إني لأسْتَحِي من الله أن أقول: تَوَكلت على اللّه، ولو توكلت عليه حقَّ التوكل ما خِفْتُ ولا رَجَوْتُ غيره. وقال: مَن خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومَن لم يَخف الله أخافَه الله من كل شيء. وقال: وعْد من اللهّ لمَن خافَهُ أن يُدْخِله اللَهُ الجنةَ، وتلا قولَه عزَّ وجَلّ: {وَلمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَان}.
وقال عمر بن ذَرّ: عبادَ اللّه، لا تَغترُّوا بطول حِلْم الله، واحذروا أَسَفَه، فإنه قال عزِّ وجلّ: {فلمَّا آسُفونا آنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فأغْرَقْناهم أَجْمَعين فجعلناهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا للآخِرين}. وقال محمد بن سَلاّم: سمعت يونس بن حَبيب يقول: لا تأمن مَن قَطع في خمسة دراهم أشرَفَ عُضو فيك أن تكون عُقُوبته في الآخرة أضعافَ ذلك. وقال الربيعُ بن خُثَيم: لو أَنَّ لي نَفْسَين إذا غَلِقَتْ إحداهما سَعَت الأخرى في فَكاكِها، ولكنها نفس واحدة، فإن أنا أوثقتُها مَنْ يَفْكّها؟ وفي الحديث: مَن كانت الدنيا هَمَّه طال في الآخرة غَمُّه، ومَن أُخْلِف الوعيدَ لها عما يُريد، ومَن خاف ما بين يَدَيه ضاق ذَرْعًا بما في يديه.
وقال محموِد الورٍّاق:
يا غافلاَ تَرْنو بِعَيْنَي راقد ** ومُشَاهِدًا للأمر غيرَ مُشَاهِدِ

تَصِلُ الذُّنوب إلى الذُّنوب وَتَرْتَجيِ ** عَرَكَ الجنَان بها وفَوْزَ العَابِد

ونسيتَ أَنّ الله أَخْرَجَ آدمَاَ ** منها إلى الدُنيا بِذَنبِ واحد

وقال نابغة بني شَيْبَان:
إنّ مَنْ يَرْكَبُ الفواحشَ سِرًّا ** حين يَخلو بسرِّه غيرُ خالي

كيف يَخْلو وعنده كاتبَاه ** شاهدَاه وربُّه ذو الجَلال

. اهـ.
أقوال العلماء والزهاد في الرجاء:
قال ابن عبد ربه:
قال العلماء: لا تشهد على أحد من أهل القِبْلة بجنة ولا بنار، يُرْجَى للمُحْسن ويُخاف عليه، ويخاف عليه المُسيء ويُرْجَى له. وفي الحديث المرفوع: إنّ الله يَغْفر ولا يُعيِّر، والناسُ يعيَرون ولا يَغْفرون. وفي حديث آخر: لا تُكَفِّروا أهلِ الذنوب.
وتُوفِّي رجلٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مُسرفًا على نفسه، فرَفع برأسه وهو يجود بِنَفْسِه، فإذَا أبواه يَبْكِيَان عند رأسه، فقال: ما يًبْكِيكما؟ قالا: نَبْكي لإسرافك على نفسك؛ قال: لا تَبْكيا، فواللّه ما يَسُرُّني أن الذي بيد الله منٍ أمريٍ بأيديكما، ثم مات. فأتى جبريلُ عليه الصلاة والسلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن فتى تُوُفَي اليومَ فأَشهَده بأنه من أهل الجنة. فسأل رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم أبويه عن عَمله، فقالا: ما عَلِمنا عنده شيئًا من خَيْر إلا أنه قال لنا عند الموت كذا وكذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مِنِ هاهنا أُوتي، إنّ حُسن الظنّ باللّه من أفضل العَمل عنده. وتُوفِّي رجل بجوِار ابن ذرّ وكان مُسرفًا على نفسه، فتحامَى الناسُ من جنازته، وبلغ ذلك عُمَرَ بن ذرّ، فأوصى أهلَه: إذا جهَزتموه فآذِنُوني، ففعلوا، فَشَهِدَه والناسُ معه، فلما أُدْلِيَ وَقَف على قبره فقال: رَحمك الله أبا فُلان، فلقد صَحِبْتَ عُمْرَك بالتَّوحيد، وعَفَّرْت وَجهك للهّ بالسجود، فإنْ قالوا مُذْنِب وذو خَطايا، فمن مِنَّا غيرُ مُذْنب وغير ذي خطايا؟ وتمثّلَ معاوية عند الموت بهذا البيت:
هُو الموتُ لا مَنْجَى من الموت والذي ** نُحاذِر بعد الموت أَنْكَى وأَفْظَعُ

ثمّ قال: اللّهمّ فأقِل العَثرة، واعفُ عن الزّلّة، وعُدْ بِحلمِك على جهل من لم يَرْجُ غيرَك، ولم يَثِق إلا بك، فإنك واسع المَغفِرة. يا رب، أين لذي الخطأ مَهْرب إلا إليك. قال داود بن أبي هِنْد: فبلغنيِ أنّ سعيد بن المُسَيِّب قال حين بلغه ذلك: لقد رغب إلى مَن لا مَرغب إلا إليه كَرْهاَ، وإني أرجو من الله له الرحمة.
الأصمعي قال: سمعتُ أعرابيًا يقول في دُعائه واْبتهاله: إلهي، ما توهمتُ سَعة رحمتك، إلا وكانت نَغْمة عَفْوك تَقْرَع مسامعي: أن قد غَفَرتُ لك. فصَدِّق ظني بك، وحَقِّق رجائي فيك يا إلهي. ومن أحسن ما قيل في الرجاء هذا البيتُ:
وإنّي لأرجو الله حتى كأنَّني ** أرَى بِجَميل الظنّ ما اللَهُ صانِعُ

. اهـ.